الجنوب الشرقي المنسي الراشيدية نموذجا
الرشيدية.. بلاد الله يعمرها دار..
الامر لا يتعلق بدرس في اللغة والأدب والشعر، ولو ان العبارة تستحق ذلك، ولكنه موروث "لا مادي" يستحق ان يتم تسجيله في منظمة اليونيسكو..
فعبارة "الله يعمرها دار" المتداولة في منطقتنا ببساطة هي تلك النظرة التي يصف بها اهل بعض المدن المغربية كل شخص يعرفون "فجأة" بأنه ينحدر من منطقة الجنوب الشرقي.. وهي صفة لا يمكن تخصيصها ولا حصرها في مجتمع محدد دون غيره ما دام الناس جميعا فيهم الطوب وفيهم الحجر..
وفيهم الطين والنار..
واهل المغرب في الاصل الله يعمرها دار منذ 12 قرن..
وخصوصا في ال400 سنة الأخيرة..
وباخص الخصوص منذ تولي اخنوش رئاسة الحكومة..
البعض يستعمل هذا الوصف من أجل التعبير عن "معرفته الشخصية" باخلاق وسلوك وطيبوبة وكفاءة وخبرة وصبر من احتك بهم وعاشرهم من أبناء المنطقة..
وبذلك يمنح لهم شهادة حسن سلوك..
يمكنه ان يضع لها اطارا مزخرفا ويعلقها في بيت الضياف..
وهناك من يعرف جيدا قيمة هذه العبارة واثرها في نفوس الباحثين عن سماع جمال رنينها وطرب كلماتها في آذانهم، فيستغلها ويوظفها من أجل تحقيق مكتسبات مادية ومعنوية لصالحه، وفي الغالب يكون ابناء هذه المنطقة من ضحاياها..
ولا ينتبهون لذلك الا بعد ان يجدو اعمارهم قد تناقصت واشيبت رؤوسهم وتدهورت أحوالهم..
لماذا أصلا عبارة "الله يعمرها دار"؟
من المعروف بان منطقة الجنوب الشرقي منطقة جافة ومهمشة ونائية ومنسية من طرف الدولة، الى جانب انها محرومة من كل ما تتمع به مناطق اخرى من المغرب من مرافق وبنيات تحتية وخدمات وتأهيل واستثمارات..
وفرص عمل.. الا في العسكر والمخازنية..
منطقة اكتفى فيها اجدادنا بالعمل في التجارة او الفلاحة المعيشية..
منطقة كانت في زمن قد ولى تحتضن عائلات كبيرة تعيش جنبا الى جنب في منازل ضخمة، يحكمها الجد او الاب بقبضة من حديد، ينضبط فيها الجميع لتوجيهاته وتربيته، فتجد سلوك اغلبهم ايجابي وجدي في عمله وعلاقاته..
مشتغلا في ارض جده او والده..
يحرثها بذراعيه..
ويأكل من بقولها وعدسها وثومها وبصلها..
وديسيره من تمرها وتينها ورمانها..
ويربي دماناته وحماره بفصتها وتبنها..
ويحصل على بيضه بشعيرها وذرتها..
ويطبخ بزيت زيتونها..
اما زراعة الدلاح ماكانش هاديك الوقت هنا..
ماذا حدث بعد ذلك؟
الذي حدث، وهو ان الأبناء (الأجداد الحاليون) اقتسمو تركة الأجداد، بما في ذلك المنازل والأراضي، بعضهم سطى على نصيب جميع اخوته وأعرف بعضا منهم، منهم تجار وموظفون ممن استطاعو ان يحققوا استقلالية مادية عن ابائهم في فترة ما بعد استقلال المغرب حيث كانت الفرص متاحة امامهم، كثير منهم اضطر لبيع حصته من الإرث لتمويل دراسة أبنائه الجامعية في مدن المغرب النافع.. وبعضهم استبدلها بشقق ومنازل في طنجة والمضيق ومكناس وفاس والرباط والدار للبيضاء.. لانه لا يريد لابناءه ان يعيشوا ظروفا قاسية مثل تلك التي عاشها في طفولته..
ومنهم من لم يرث شيئا بعد ان اختلف الأبناء والاخوة واختلط الحابل بالنابل وبقيت اراضيهم الفلاحية تذروها الرياح وتقتلها عوامل الجفاف والاهمال.. ومنازل العائلة مهجورة تهدمها ظروف التعرية والزمن..
ويمكن لكل من اراد ان يتأكد من ذلك ان يزور غابة المحيط وتاركة بمدينة الرشيدية ليستمتع بمشاهد الدمار والعشوائية في البناء وسط الواحة قبل ان تتدخل الوكالة الحضرية لوضع حد لعملية زحف الاسمنت على ما تبقى من الواحة التي تخلى عنها اصحابها وباعوها بابخس الأثمان..
اما الجيل الحالي من الابناء والاحفاد..
فلم يبقى له اي شيء هنا..
لقد تمت تصفية كل التركة بنجاح..
ولي كلا حقه يغمض عينيه..
ويمشي يخدم على راسو..
زعما الخدمة راها غا مشتتة هنا.. او لهيه..
وتجي انت تقول له "الله يعمرها دار"!!
ما علاقة كل ذلك بعبارة "الله يعمرها دار"؟!
من بين هؤلاء الابناء "الورثة" من لم يستغل الفرصة مثل اقرانه بعد الاستقلال ليصبح موظفا او تاجرا، او لم تتح له الفرصة اصلا، فقرر الهجرة للبحث عن فرص عمل في الغرب.. غرب المملكة طبعا.. فحمل معه تربيته وطيبوبته.. وخصوصا.. صبره وقدرته على التحمل.. التحمل مضطرا.. لانه يعلم بانه لاشيء ينتظره في مسقط راسه سوى رؤية الوالدين وصلة الرحم مع الإخوة والأهل والأقارب وحضور افراحهم واقراحهم ودفن موتاه وذكرياته معهم.. ثم العودة سريعا لمجتمعه البديل الذي منحه فرصة العيش والاستقرار والمجاملة بعبارة "الله يعمرها دار" التي يصفه بها كل من يتعامل معه سواء في العمل او التجارة او الجيران او العلاقات الإجتماعية عامة..