نظرية التطور تفسيرا لنمط ظهور الكائنات الحية : هل هي خرافة لا أساس لها من الصحة ،أم حقيقة علمية مرصودة؟
"لا معنى لشيء في علم الأحياء إلا في ضوء التطور"
هكذا عبر عالم الأحياء التطوري ثيودوسيوس دوبجانسكي عن مدى أهمية التطور في دراسة الكائنات الحية، فالترتيب الذي تظهر به الحفريات في السجل الأحفوري مثلا لا معنى له إطلاقا إلا في ضوء التطور، ولا يمكن لأي فرضية أخرى أن تقدم تفسيرا علميا لنمط ظهور الكائنات الحية وانقراضها في السجل الأحفوري، بل لا وجود لأي فرضية أخرى قائمة على أساس علمي يمكننا مقارنتها بالتطور. غير الأساطير الخلقية العاجزة عن تقديم ولو تفسير أو تنبؤ واحد يمكننا التحقق منه. وسنعود لهـذا الموضوع لاحقا. لكن قبل ذلك في هذا المقال سنستعرض دليلا من السجل الأحفوري يثبت وبشكل قاطع صحة التطور، وقدرته على تقديم تنبؤات دقيقة يمكننا التحقق منها عن طريق الملاحظة.
بدأت الحياة على الأرض منذ قرابة 4 مليار سنة في المحيط، وحدثت الكثير من الرحلات التطورية من البحر إلى البر تمكنت خلالها الكثير من النباتات والمجموعات الحيوانية من شق طريقها نحو اليابسة، كالحشرات والحلزونيات والسلطعونات البرية والعناكب والديدان، ورباعيات الأرجل التي هي موضوع المقال.
فقبل 390 مليون سنة كانت الأسماك فصية الزعانف منتشرة جدا في البحار والأنهار، وهي أسماك تمتلك زعانف عظمية تشبه الأرجل في بنيتها التشريحية أكثر من الزعانف الشعاعية المألوفة. كسمكة الEusthenopteron التي عثر على أحفورة لها عام 1881 في كندا . وقد عاشت منذ حوالي 385 مليون سنة في بحار الحقبة الديفونية، وكانت تمتلك زعانف عظمية مفصصه تشبه في بنيتها التشريحية تلك الموجودة عند البرمائيات التي ظهرت لاحقا في السجل الأحفوري، كامتلاكها لعظمتي الكعبرة والزند متصلة بعظم العضد، والكثير من العظام الأخرى التي تشكل الأصابع والرسغ عند الفقاريات الحديثة. وقد اكتشفت أحفورة أخرى أكثر شبها برباعيات الأرجل تدعى Panderichthys عاشت في العصر الديفوني المتأخر. لكنها تبقى كلها مجرد أسماك لا تغادر البحر إطلاقا.
لكن في نهاية العصر الديفوني وبداية العصر الكربوني منذ حوالي 370 إلى 365 مليون سنة تقريبا بدأت البرمائيات رباعية الأطراف بالظهور في السجل الأحفوري بقوة، كالIchthyostega والAcanthostega والتي كانت تتميز برؤوس وأجساد مسطحة, وامتلاكها للرقبة والرئة، وأطراف أمامية وخلفية متقدمة لكنها شبيهة بالأسماك فصية الزعانف في بنيتها التشريحية. وكانت هذه الكائنات تقضي معظم الوقت في الماء، إلا أن امتلاكها للأطراف والرئات توحي إلى أنها استطاعت الزحف خارج الماء أيضا لبعض الوقت.
وفقا لنظرية التطور فإن الانتقال من الأسماك التي عاشت قبل 390 مليون سنة إلى رباعيات الأطراف التي عاشت قبل 365 مليون سنة يستلزم وجود أشكال انتقالية بينهما تحمل سمات انتقالية وسمات مشتركة بين كلتا المجموعتين. ويجب أن يكون هذا الشكل الانتقالي قد عاش بين 390 و365 مليون سنة ويجب أن يكون أيضا قد عاش بالقرب من اليابسة. وبناء على هذا المنطق فقد تنبأ نيل شوبين من جامعة شيكاغو بضرورة وجود حفريات لكائنات انتقالية بين الأسماك رباعيات الأطراف في هذه الفترة الزمنية، وبدأ بالبحث عن طبقات صخرية تعود لنفس الفترة ومناسبة لأن تكون أنهارا أو بحيرات في الماضي. إلى أن عثر هو وزملاؤه على المكان المنشود. وادي في جزيرة Ellesmere شمالي كندا. وأمضوا خمس سنوات من البحث هناك إلى أن اكتشفوا مجوعة من الهياكل العظمية توحي من أول نظرة إلى أنه الكائن الانتقالي المثالي بين الأسماك ورباعيات الأطراف.
كان نيل شوبين وزملائه قد اكتشفوا نوعا انتقاليا يدعى التيكتاليك عاش منذ حوالي 375 مليون سنة. وكان يحمل سمات شبيهة بالأسماك فصية الزعانف. كالحراشيف السمكية والزعانف والخياشيم، كما كان يحمل أيضا سمات شبيه بالبرمائيات رباعية الأطراف، كالرأس المسطح ,وموقع العينين والمنخرين على قمة الجمجمة بدلا من جانبيها، وامتلاكه لرقبة تمكنه من تحريك رأسه عكس الأسماك التي تتصل جماجمها مباشرة بكواهلها. وكانت له ضلوع قوية تساعد التيكتاليك على ضخ الهواء الى الرئتين.
بالإضافة إلى ذلك، فقد كان للتيكتاليك سمات مشتركة توثق المرحلة الانتقالية من شكلها عند الأسماك إلى شكلها الأحدث عند البرمائيات رباعية الأطراف:
- فعدد المفاصل في الجمجمة عندها في مرحلة وسيطة بين أسلافها من الأسماك والبرمائيات المنحدرة منها، حيت كانت الأسماك قد امتلكت مفاصل أكثر في جماجمها بينما البرمائيات كانت قد امتلكت جمجمة أكثر اندماجا وانصهارا.
- تمتلك الأسماك عظمة كبيرة في جماجمها تدعى hyomandibula تربط فكها العلوي مع القحف. بينما البرمائيات وكل المتحدرات منها تمتلك هذه العظمة في الأذن الوسطى بحجم أصغر ووظيفة مختلفة تساعدها على السمع، وكانت التيكتاليك تملك هذه العظمة ولكن بحجم أصغر من الأسماك وأكبر من البرمائيات.
- البنية التشريحية للعظام في أطراف التيكتاليك توثق مرحلة انتقالية واضحة من الزعانف العظمية الفصية عند الأسماك إلى الأرجل عند البرمائيات. فهي تظهر نفس النمط في الموقع والعدد والحجم والقوة ونفس السمات الوظيفية كقابليتها للثني.
إذن فالتيكتاليك أحفورة انتقالية مثالية بين الأسماك والبرمائيات رباعية الارجل، ودليل قوي على قدرة نظرية التطور على صناعة تنبؤات علمية دقيقة. فتخيل معي أخي الكريم لو لم يتمم نيل شوبن وزملاؤه البحث في شمالي كندا لمدة خمس سنوات، أو أنهم كانوا قد بحثوا في المكان الخطأ أو في الصخور الخطأ ولم يجدوا شيئا. كيف كانت ستكون شعارات الخلقيين حينها؟ where are the missing links؟
لنفترض لبعض الوقت أن التطور خرافة لا أساس لها من الصحة، هل سيساعد هذا فرضية الخلق المباشر بأي شكل من الأشكال؟ هل بإمكانها أن تقدم لنا أي دليل على صحتها؟ هل يمكنها أن تقدم أي تنبؤ؟ هل يمكنها حتى أن تقدم أي تفسير للحقائق العلمية المرصودة؟ لنأخذ حفرية التيكتاليك على سبيل المثال.
لماذا ظهرت الأسماك فصية الزعانف أولا في السجل الأحفوري؟ ثم ظهرت رباعيات الأطراف البدائية بعدها مباشرة؟ ولماذا كانت هذه المجموعات متشابهة في بنياتها التشريحية؟ ولماذا عاش كلاهما بقرب اليابسة؟ ولماذا كان التيكتاليك يحمل سمات مشتركة بينهما وعاش في فترة زمنية وسيطة بينهما؟ ولماذا عثرنا على حفرية التيكتاليك في ما كان نهرا في الماضي ولم نعثر عليه في أعماق المحيط؟ لماذا عثرنا على كل هذه الحفريات في زمن لم تظهر فيه أي من الفقاريات البرية الأخرى؟
كل هذه الأسئلة تضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن الخالق يريد أن يخدعنا بأن الكائنات قد تطورت على الأرض، فوضع كل الحفريات في مكانها المخصص وفي زمنها المحدد ثم خلقها بسمات محددة لكي تنطلي علينا حيلة التطور. أو أن الكائنات الحية قد تطورت بالفعل وأن نظرية التطور هي التفسير الوحيد لفهم كيفية تطورها.
الإجابة واضحة، لكن بعض الناس يعشقون الخرافات ويبغضون العلم.
Neil Shubin , Your Inner Fish .
Donald Prothero , The Story of Life in 25 Fossils .
Richard Dawkins , The Greatest Show on Earth .
Gene Helfman, Bruce B. Collette, Douglas E. Facey, Brian W. Bowen , The Diversity of Fishes .
Jerry A. Coyne , Why Evolution Is True .