ما الذي يطغى على الكون العشوائية أو الدقة ؟

ما الذي يطغى على الكون العشوائية أو الدقة ؟

#الصدفة_والعشوائية_والفوضى_والعبثية_والإنتظام

هل يتصف الكون بأيٍّ منهم؟

الصدفة والعشوائية والفوضى والعبثية والغائية والانتظام.. من أكثر الكلمات التي يتم الخلط بينها عند الحديث عن تفاعل ما أو عملية ما أو منظومة ما، وكثيرًا ما يتم تداولها عند الحديث عن الكون.. وكالعادة فإن الخلط بين هذه المفاهيم في حياتنا اليومية يسبب خلطًا فيها أثناء النقاشات حول المواضيع العلمية فكما يتم الخلط بين مصطلحات مثل وجهة النظر Point of view والمنظور Perspective والنظرية Theory لينتج عندك شخص يقول لك عن نظرية علمية ما أنها "مجرد نظرية It’s just a theory" بما تحمله هذه الجملة من أخطاء قاتلة وضحتها سابقًا في هذا المقال، كذلك نجد خلطًا كبيرًا خاصة بين مصطلحات مثل الصدفة والعشوائية والفوضى...

في البداية دعونا نتفق على مفهوم منطقي وعلمي مهم وهو أن تقييم الشيء هو مقارنته مع غيره، فلتقييم أي شيء بشكل يمكن القول عن أن هذا التقييم صحيح أو موضوعي أو مستقل عن الشيء نفسه يجب أن يكون هذا التقييم من خارج منظومة الشيء نفسه بل وبالمقارنة مع شيء أو أشياء أخرى مستقلة عن الشيء الذي تتم مقارنته وتحكمها نفس القوانين، ولكي تكون المقارنة مفهومة أكثر يجب أن يتم الاتفاق على أشياء معيارية واضحة يتم المقارنة بها؛ أمثلة على هذا:

لا نستطيع أن نصف شيئًا ما بأنه طويل أو قصير ما لم تكن هنالك أشياء أخرى مستقلة عنه تمتلك أيضًا البعد المسمى طولًا وتحكمها نفس القوانين، ولكي تكون عملية القياس معيارية تم اختيار أطول معيارية كالذراع والقدم والكف والفرسخ ومن ثم تطورت إلى أطوال أكثر معيارية كالمتر (عام 1795) ويوجد علم كامل لهذه القياسات يسمى المترولوجيا أو علم القياس Metrology، كما وتم وضع نظام وحدات دولي International System of Units.لا نستطيع أن نصف شيئًا ما بأنه ثقيل أو خفيف ما لم تكن هنالك أشياء أخرى مستقلة عنه تمتلك أيضًا وزنًا وتحكمها نفس القوانين، وقد تم وضع وزن معياري هو الكيلوغرام وهو وزن ليتر من الماء، وكذلك الرطل وغيره.لا نستطيع أن نصف أن شيئًا ما بأنه بطيء أو سريع ما لم تكن هنالك أشياء أخرى مستقلة عنه تمتلك أيضًا سرعة وتحكمها نفس القوانين، وتوجد سرعات معيارية كالمتر في الساعة والميل في الساعة وسرعة الضوء وغيرها..

إذًا للحكم على حالة الشيء يجب توفر على الأقل جملة مقارنة واحدة تحكمها نفس الظروف، بحيث يتم اعتبار إحداهما معيارًا للأخرى التي تقارن بها فتعتبر إما تملك الخاصية المقارنة بشكل أكبر مما تمتلكه جملة المقارنة أو بشكل أقل (أطول أو أقصر، أثقل أو أخف، أسرع أو أبطأ.. إلخ)..

نعود الآن إلى الفرق بين المواصفات المذكورة أعلاه، والآتي هو تعريفات مبسطة لاستخدام هذه المعاني في الكلام العلمي العام المبسط حيث أن التعاريف تختلف حسب الاختصاصات فقد يختلف تعريف النمط أو التسلسل العشوائي الرياضي عن النمط العشوائي الفيزيائي:

- الصدفة Coincidence/Chance: وهنا يوجد معنيين؛ الأول هو الصدفة أو التصادف Coincidence وهو حدوث شيئين في نفس الزمان والمكان بالرغم من عدم ترابطهما مع بعضهما البعض أو التخطيط لهما كأن يتصادف مرورك في الشارع مع مرور شخص تعرفه؛ والمعنى الثاني هو حدوث الشيء بالصدفة by chance وهو حدوث الشيء في مكان وزمان ما باحتمال حدوث وحيد الحالة أو ما يسمى فلسفيًا احتمال موضوعي وحيد الحالة single-case objective probability والذي لم يستطع الفلاسفة تعريفه بشكل دقيق. وحدوث الشيء بالصدفة By chance بمعنى الاحتمال الموضوعي وحيد الحالة غير موجود علميًا والعلم لا يعترف بشيء يسمى "حدوث بالصدفة" وهذا ما سيتوضح أكثر في مثال العشوائية..

- العشوائية Randomness: هو العملية التي تحدث دون اتجاه محدد أو معروف لعدم معرفتنا للعوامل والمتغيرات والمؤثرات التي تحكمها وبالتالي عدم امتلاكنا لقانون أو منهجية أو آلية لحدوث هذه العملية وعدم قدرتنا على التنبؤ بتغيرها وتطورها.. عشوائية الشيء لا تعني أن نتيجته تختلف إن لم تختلف الشروط المؤثرة بل تعني ببساطة أننا لا نعرف آلية التغير ويمكن لاحقًا مع تطور الآليات أن نعرف هذه الآلية وندرسها ونضع لها قانونًا وهذا ما يميزها عن "الحدوث بالصدفة By chance".. فمثلًا إن وضعنا كرسي على شرفة الطابق السابع لبناء مكون من عشر طوابق وقمنا بتفجير هذا البناء فالكرسي ستطير بشكل عشوائي تحت عدد كبير من العوامل كضغط الانفجار ومقاومة الهواء ووزن الكرسي وحجمها والجاذبية الأرضية وحركة المقذوفات وغيرها الكثير من العوامل التي لا نستطيع أن ندرسها أو ندرس اتجاهها وشدتها وتأثيرها، ولكن مع هذا فإن مكان سقوط الكرسي سيكون دومًا نفسه في حال تأثر الكرسي بنفس العوامل وهو ما يسمى بالحركة العشوائية للكرسي بينما لو اختلف مكان السقوط في كل مرة بالرغم من ثبات كل شيء آخر لكان صدفة وهو ما لا يقول به العلم..

- الفوضى Chaos: هنالك تداخل كبير بين مصطلحي الفوضى والعشوائية، لكن في الحقيقة الفوضى لا تتطلب العشوائية بالضرورة ويمكن أن يكون ناتج النظام الفوضوي متوقعًا ويمكن التنبؤ به Predictable على عكس العشوائي، ولكن ما يميز النظام الفوضوي هوي أنه نظام يرتبط بالحالة الأولية للجملة Initial state ويمكن أن يسبب أي تغير بسيط فيه اختلافات كبيرة جدًا في سلوك هذا النظام، وأفضل مثال عليه هو تأثير الفراشة Butterfly Effect وهو أحد أكثر صور الفوضى شيوعًا، والتي تقول أن رفرفة جناحي الفراشة في الأرجنتين يمكن أن تتسبب في إعصار في تكساس بعد ثلاثة أسابيع. وتُعرف النسخة الرياضية لهذه الخاصية بمسمى الاعتماد الحساس sensitive dependence على الرغم من أن هذا المصطلح أصبح قديمًا نوعًا ما.

- الانتظام Regularity: وهي الحالة التي يتبع فيها التغير أو الجملة نسقًا منتظمًا يرتبط فيه الأثر بالمؤثر بشكل واضح  يسمح بتوقع نتائج هذا التغير والتنبؤ بها، ويتبع هذا النمط الكثير من التفاعلات والتغيرات الفيزيائية والكيميائية وكلما كانت العوامل المؤثرة أقل وأبسط كلما كان الانتظام أكبر. وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون فالانتظام لا يعني الغائية بل قد يكون عبثيًا، فكون النظام غائي أو عبثي هو شيء يتعلق بإمكانية تحديد فعلية وجود هدف ما من هذا النظام، ويأتي الخلط في أن وجود انتظام أو نظام يعني بالضرورة وجود هدف من الخلط بين كلمتي عبثية Absurdity وعشوائية Randomness..

- العبثية Absurdity: على الرغم من أن الكثير من التعريفات بما فيها الأجنبية منها تعرف العبثية على أنها الشيء السخيف أو غير المعقول إلا أنها تعريفات للاستخدامات اليونية أما تعريف العبثية (القيام بالشيء بشكل عبثي) هو القيام بالشيء أو حدوث الشيء دون هدف محدد مسبقًا، وهي عكس الغائية أو الهدفية.

- الغائية Teleology/finality: وهي اعتبار أن الأشياء تحدث لغاية وهدف ما مسبق وتفسير الأشياء تبعًا لغايتها بدلًا من تفسيرها تبعًا لآلية حدوثها.

إذًا مما سبق من تعاريف نستطيع أن نرى أن كون الشيء عشوائيًا أو منتظمًا يعتمد أولًا على إمكانية مقارنته بجملة أخرى تحت نفس الظروف وتمتلك نفس الخصائص وهو ما لا يمكن تطبيقه على الكون فلا نعرف كونًا آخر لمقارنته به وفي حال وجوده فنحن لا نعرف ماهية القوانين الحاكمة له كون قوانينا التي نقيس بها هي قوانين كونية داخل كوننا ونشأت معه، فنحن هنا كمن يقول عن نفسه أنه طويل أو قصير بالرغم من عدم معرفته (افتراضًا) بوجود بشر آخرين للمقارنة بهم.

أما اعتبار أنه من الممكن مقارنة الكون بأجزائه فهذه مغالطة مقارنة الكل بأجزائه أو ما يسمى مغالطة التركيب Composition fallacy خاصةً وأننا أخذنا مفهوم الانتظام والعشوائية بالأساس من الكون نفسه! وأننا لا نعلم أساسًا إن كان الكون متسقًا في أجزائه..

وحتى مفهوم الانتظام والعشوائية يعتمد كما رأينا على إمكانياتنا وقدرتنا على التعرف وضبط العوامل فكثير من الأشياء التي كانت تعتبر فيما سبق عشوائية أصبحت تعتبر منتظمة بعد امتلاكنا للعلوم والأدوات التي ساعدتنا على قياس العوامل بشكل أكثر كفاءة، وكذلك العديد من العوامل التي كانت تعتبر منتظمة أصبحت تعتبر عشوائية بعد أن وصلنا إلى أبعاد أصغر فيها كالوصول للمستويات ما دون ذرية.. أي ضمن كل نظام يمكن أن تجد عشوائية وضمن كل عشوائية يمكن أن تجد نظام؛ ولا يحتاج ظهور النظام إلى وجود ناظمٍ عاقل خلفه بل يكفي وجود قوانين تسبب هذا الانتظام كالقوانين الفيزيائية التي يمكن أن تكون شيئًا من صفات المادة..

وحتى في حال تحديد أن الجملة منتظمة فهذا لا يعني أنها هدفية بالضرورة، ولمعرفة إن كانت جملة ما عبثية أو غائية لا بد من (1) إثبات وجود الغاية إن كانت موجودة وإثبات وجود الغاية يتطلب (2) إثبات وجود قوة عاقلة غائية كانت وراء هذه العملية و(3) إثبات أن لهذه العملية خطة وهدف مسبق لأنه حتى القوة العاقلة يمكن أن تقوم بأفعال عبثية. فرؤية كيس بلاستيكي مرمي في الحديقة لا يعني بالضرورة أن من وضعه هو إنسان عاقل فقد تكون الرياح من رمته في الحديقة، وحتى لو أُثبت أن إنسانًا ما هو من رمى الكيس فقد يكون رماه عبثًا دون هدف.

أي ولحل معضلة هل الكون منتظم أم عشوائي فالجواب أنه بالتأكيد لا يوجد علميًا مسمى "الكون جاء بالصدفة By chance" ولا يمكن القول أن الكون عشوائي أو منتظم لعدم وجود كون آخر للمقارنة ولعدم معرفة القوانين الحاكمة للأكوان في حال وجودها.. أما العمليات الكونية فمنها العشوائي ومنها المنتظم حسب قدرتنا على فهمه ودراسته وداخل الانتظام يوجد عشوائية وداخل العشوائية يوجد انتظام، وحتى ما نعتبر انتظامًا لا يمكن القول عنه أنه غائي لعدم إثبات وجود قوة عاقلة غائية خلفه أو حتى الحاجة لوجودها ولعدم إثبات وجود هدف مسبق..

في الختام، إن كان الكون عشوائيًا عبثيًا فهذا لا يعني بالضرورة أن تكون حياة البشر الشخصية عشوائية عبثية فالتفاعلات الثانوية لا تحمل بالضرورة نفس مواصفات التفاعل الكلي الذي يشملها، فكما أن تطبيق مواصفات الجزء على الكل يعتبر مغالطة التركيب Composition fallacy، فكذلك تطبيق مواصفات الكل على الجزء يعتبر مغالطة أيضًا وهي مغالطة التفكيك Division fallacy، وكل إنسان قادر أن يضع لنفسه أهدافًا ويخلق من عشوائية وجوده تأثيراتٍ هدفية منتظمة تغير من حياته وحياة من بعده..

بعض المصادر:

Eagle, Antony, "Chance versus Randomness", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2021 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2021/entries/chance-randomness/>.Bishop, Robert, "Chaos", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2017 Edition), Edward N. Zalta (ed.), URL = <https://plato.stanford.edu/archives/spr2017/entries/chaos/>.Andreas, Holger and Mario Guenther, "Regularity and Inferential Theories of Causation", The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2021 Edition), Edward N. Zalta (ed.), forthcoming URL = <https://plato.stanford.edu/archives/fall2021/entries/causation-regularity/>.

ما هو رد فعلك؟

0
like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow