قراءة في السيرة الغيرية ادوارد سعيد أماكن الفكر

قراءة في السيرة الغيرية ادوارد سعيد أماكن الفكر

#قراءة_في_كتاب 

ادوارد سعيد أماكن الفكر

المؤلف ثمتي برنن

ترجمة محمد عصفور (عالم المعرفة العدد 492)

عدد صفحات الكتاب 528 صفحة 

يمكننا تصنيف الكتاب الذي بين أيدينا ضمن خانة السيرة الذاتية، بل هي أعمق، فقد ذهب بنا ثمتي برنن أحد أنجب تلاميذ إدوارد سعيد ( يسميه الكاتب هنا ب اد سعيد اختصارا لاسمه) للغوص في حياته بتفاصيلها وحيثياتها الدقيقة، حتى ليخيل لك أنه أقرب الناس إليه، أو ملاك يحوم حول كتفيه طوال حياته ويسجل الملاحظات الأفكار، الخواطر، الأحزان و الأفراح... أو ظله الذي لا يفارقه.

يستهل الكاتب مؤلفه بتعريفنا بإدوارد وليم سعيد الذي ازداد شهر نوفمبر 1935م بمدينة القدس، بمساعدة قابلة يهودية التي رددت -وهي تخرجه من رحم أمه هلدا موسى سعيد- بالعبرية والعربية "يا سيدنا نوح خلّص روح من روح" وذلك بسبب هزالة جسم المولود، والذي احتاج لفحص مستعجل من طبيب يهودي ألماني.
اختارت هلدا موسى سعيد اسم ادوارد لأنها تحب الإسم ولأنه اسم أمير ويلز، لكن الطفل كره هذا الإسم عندما كبر وفضل اسما عربيا...

كان آل سعيد أقلية انغليكانية مسيحية محاطة بالمسلمين واليهود، فتأرجحت حياته  بين مصر ولبنان وفلسطين، فهو لم يعش كثيرا بالقدس ثم ارتحل للولايات المتحدة الامريكية.

ساعدته أمه هيلدا في صقل موهبته وشحذ أفكاره السياسية وساهم أصدقاءه وأبناء عمه كذلك، فبدأ بفقد أصدقائه واحدا تلو الآخر بسبب الاغتيالات، وأولهم فريد حداد مناضل مصري، ثم ناصر كمال الذي اغتاله الصهاينة بلبنان... ليبدأ في التفكير جديا في الدفاع عن وطنه..

مر اد سعيد بامتحان سريع ليكتشف توجهه الأكاديمي المناسب، بعد أن وجد نفسه أمام ثلاث اختيارات الطب والفن (عازف بيانو تعلم العزف من معلم موسيقى يهودي) والأدب. وساهم احتكاكه بأدباء ونقاد أن جعله يحسم اختياره، كاحتكاكه بشارل مالك وأصدقاء آخرين، واطلاعه على الأدب الأروبي والأمريكي، وظهور أحداث في السياسة العالمية حتمت عليه ابداء رأيه فيها، كحرب لبنان و مجزرة جنوب افريقيا و العدوان على مصر ...

كما ساعده في دراسة الأدب المقارن تمكنه من قراءة وتعلم اللغة العربية والفرنسية والإيطالية واللاتينية والألمانية والإسبانية والإنجليزية.
درس سعيد اد بجامعة هارفرد وحصل فيها على الدكتوراه تحت اشراف أستاذه ليڤن أستاذ الأدب المقارن، وانتقل للتدريس بجامعة كولومبيا...

تعرف في شبابه بفتاة اسمها مايرة استونية ومثقفة بعد أن فشلت علاقته بفتاة لبنانية بسبب مستواها الأكاديمي (الثانوي لم يعجب سعيد)، لكن مايرة لم تعجب عائلته، ووقع بينهما صراعات وفي آخر المطاف افترقا سنة 1967م ليتعرف بمريم قرطاس وهي لبنانية ساعدته في أبحاثه لكونها مثقفة وتحضر الدكتوراه، تزوج بها سنة 1970 ورزقا بطفل سماه على إسم أبيه وديع، في حين اضطربت علاقته بأبيه قبل أن يموت وبأمه كذلك.

كان وديع أب ادوارد سعيد يمتلك الجنسية الامريكية ما سهل على ابنه التنقل للولايات المتحدة الأمريكية وأروبا بسلاسة...
بعد الحصول على الدكتوراه بدأ بتقديم محاضرات بجامعات أروبية وأمريكية، وحشد مثقفين للدفاع عن القضية الفلسطينة، بعد أن تعرف عليها بشكل دقيق، فأصبح معروفا في الوسط الثقافي بمقالاته ضد العدوان على مصر وكتابه البدايات المحلل لنظريات ميشيل فوكو، وراسل نعوم تشومسكي وأدونيس، كما صادق ياسر عرفات و شفيق الحوت ومنظمة التحرير الفلسطينية وترجم بيانها الأول للإنجليزية بمؤتمر الأمم المتحدة..
تأثر اد سعيد بميشال فوكو من خلال كتابه الأول البدايات الذي اهتم أساسا بالفيلولوجيا، فقد عاصر  فوكو وتراسلا حول القضية الفلسطينية كما فعلل مع  جون بول سارتر وجاك دريدا وجيل دولوز ....،  تأثر بفيگو رغم أن بينهما قرنين من الزمن، بالرغم من اختلاف وتضاد أفكار فوكو وفيگو، إلا أن أواخر السبعينيات  سيغير سعيد رأيه في فوكو - أرسل فوكو مقالا يبدي فيه إعجابه بادوارد سعيد وأسلوبه ومدحه فيه- وذلك بسبب هجوم فوكو على المثقفين الداعمين للبروليتالية والسلم معتبرا إياهم شموليين...

يناقش اد سعيد في مؤلفه الاستشراق كأهم كتبه إثارة للجدل والنقد سوء نية المستشرقين في انتاجاتهم، فهاجم  المستشرقين واعتبرهم عبيدا وخداما للإستعمار وللامبريالية، ووضح أن هدفهم ليس التدوين والعلم بل جمع معلومات عن الشرق، لمحاولة استعماره ثقافيا وعسكريا، وهذا ما يفسر تمجيد المستشرقين لإنتاجات العرب القديمة، في إشارة إلى أنهم لا ينتجون أي شيء حاليا، لكي يربط المشارقة حضارتهم بالماضي فقط. كما انتقد كيف صور المستشرقون الإنسان المشرقي، ونشروا هذه الأفكار في الكتب والسينما والأفلام وترسخت هذه الصورة النمطية في ذهن الإنسان الغربي الذي ينظر للشرق نظرة تخلف ودونية...
إلا أن الكتاب عرف حملة شرسة وانتقادا لاذعا من أصدقائه المستشرقين، كجاك بيرك (المقيم العام الفرنسي بمدينة امنتانوت قبائل سكساوة) الذي تواصل معه مرار وتكرارا قبل نشر الكتاب، وصديقه صادق العظم الذي تدهورت صداقتهما بعد النقد الحاد الذي وجهه له، ورد سعيد غير اللائق، فاشتهر الكتاب وانتقده أساتذه، من بينهم عبدالله العروي،  وتلاميذه واللسانيون والمستشرقون والماركسيون .... ما جعل سعيد يغضب من كمية النقد الذي تعرض له الكتاب، فاستفزه الأمر، لدرجة شتم أحدهم في ندوة عامة، ليخلص الجميع لحقيقة غروره الزائد مع أصدقائه وعائلته أيضا.

في سنة 1979 نشر كتابا تحت اسم القضية الفلسطينة، تحدث فيه عن فلسطين وعن الصهيونية، فتعرض للنقد بالولايات المتحدة الأمريكية وأصبح الخطر يداهمه، بعد أن اتُهِم أنه ينتمي لمنظمة التحرير الفلسطينية بشكل غير رسمي ...

نشر بعد ذلك كتاب تغطية الاسلام الذي ناقش فيه شمولية وإخفاء الاسلام، ما زاد التهديدات التي تصله بتصفيته، وكثر الضغط من أجل طرده من منصبه بالجامعة.. ثم سيخط كتابا عن ضحايا الصهيونية، والذي رفضت عدة دور النشر طباعته لأنه يناقش جرائم باسم الصهيونية...

استطاع بعد ذلك نشر عدة مقالات تفصل في جرائم باسم الصهيونية، وتلقى تحذيرات من أصدقائه وأبيه بأنه مهدد بالتصفية بعد اجتياح لبنان، وبعد زيارته للبنان ورميه حجرا تجاه الجدار الفاصل بين لبنان واسرائيل ما اعتبره الغرب تحريضا على العنف ومعاداة للسامية، فتم تفجير مكتبه بالجامعة وأحرقت وسرقت كتبه، وتم تهديد عائلته، وهاجمته امرأة بزي عسكري في مكتبه بجامعة كولومبيا فتدخلت الشرطة لحمايته بوضع زجاج مضاد للرصاص بمكتبه...

اهتم سعيد كذلك بمراجعة روايات عربية ونشر المراجعات بالمجلات والجرائد لتصل للعالمية، فراجع روايات نجيب محفوظ "بين القصرين" ورواية الطيب صالح "الهجرة إلى الشمال" وكتابات أخرى، ثم انتقل للأدب اللاتيني مع غابرييل غارسيا وغيره من الكتاب....

توقف سعيد في فترة ما عن كتابة المقالات والكتب لمدة ناهزت 12 سنة بسبب المرض الذي ألم به وزادت حدته، فقد كان يسعل دما وكسر ضلعين من ضلوعه بسبب السعال الحاد، (على حد قول صديقه سلمان رشدي)، وبعد تحسن حالته سيبدأ في التخطيط لاصدار كتاب عن المثقفين، لكنه سيتراجع ويخط كتابا آخر عن "العالم والنص والنقد" وهو من أهم الكتب في حياته بعد الاستشراق والبدايات، بل يفوقهم تنظيما ومنهجا، فالمنهج السليم في ترتيب الأفكار هو ما جعل جاك دريرا وميشال فوكو وديكارت يشتهران على حساب فيگو ولوكاتش... فحاول في هذا المؤلف تبيان دور الجامعة في الولايات المتحدة الأمريكية...

سيرجع سعيد للكتابة ويركز في سطوره على انتقاد وضرب المركزية الأروبية والغرب والامبريالية العسكرية والاقتصادية والثقافية، فانتقد المثقفين في مؤلفه "خيانة المثقفين" واعتبرهم متواطئين مع المستعمر والظلم بالصمت، وبتمجيد الغرب.. 
إن دور المثقف حسب قوله هو توعية الشعوب بمخاطر الاستعمار من نيكاراغوا لجنوب افريقيا لفلسطين ... ما سيجر عليه نقدا وصراعات فكرية شبيهة بالهجوم الذي تعرض له مؤلف الاستشراق..
لعل تفاقم صحة سعيد وتدهور حالته بسبب السرطان حتم عليه الابتعاد عن التأليف كلما أحس بالألم ينهش جسمه، وزاد الأمر بعد صراعه مع منظمة التحرير الفلسطينة التي لم تسلم من نيران هجومه، فانتقد سهراتها الماجنة وتبذيرها للأموال بفنادق خمس نجوم بأروبا وأمريكا، واعتبر قادتها مبذرين وتناسوا قضيتهم الأساسية وهي بناء دولة فلسطينية ودحر المحتل الصهيوني... كما ركز في نقده على الشخصية رقم واحد بالمنظمة وهو ياسر عرفات خصوصا بعد اتفاق اوسلو 1991 م، فرد الاخير بمنع كتبه بفلسطين ...

استطاع سعيد أن يكثف من تواصله مع مثقفين وكتاب وصحفيين وفنانين اسرائيليين في أواخر حياته، فربط علاقة بنعوم تشومسكي الذي رفض الدولة الصهيونية وانتقدها علنا، وبمؤرخين وموسيقيين، فترجمت كتبه ومقالاته للعبرية وأصبح له مؤيدون داخل وخارج اسرائيل من اليهود كشاحاك وتشومسكي...
هذا التواصل سيجعل لأفكاره صدى بالمجتمع الصهيوني، وستلين مواقفه شيئا فشيئا، فطالب في آخر حياته بدولة واحدة تضم يهودا وعربا بدل اتفاق اوسلو الذي بقضي بحل الدولتين.. معتبرا أن المحتل أصبح واقعا مريرا، فجعلته هذه الفكرة مرة أخرى عرضة للنقد من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي...

حاول ادوار تعلم الموسيقى وتعليمها، وخلص في سنواته الأخيرة أن الموسيقى دواء للروح وقد تكون حلا للصراع الفلسطيني الاسرائيلي وناشرة السلام بينهم، فبادر بتكوين فرقة موسيقية من فلسطينيين واسرائيليين تلاميذ وأساتذة.
بعد انتشار اللوكيميا في سائر جسده، اهتم بأدورنو وبيتهوفن وانتقد موتسارت لتملقه الحكام، وكتب مقالات ومراجعات عن مؤلفاتهم، ليبعث برسالة للجميع أنه تعب وانحاز للموسيقى والسلام وأنهكته المعارك الفكرية..

توفي ادوارد وليم سعيد في ديسمبر 2003 تاركا وصية بأن يذفن بتلة بلبنان تطل على فلسطين...
كان الجميع يترصد حياة ادوار سعيد ولما مرض واقترب من الموت اشتد الهجوم على أفكاره وشخصه، وهو ما جعله غاضبا وغير قادر على الرد، بل سيشتد النقد بعد موته ويكثر الهجوم عليه حتى من أعز اصدقائه وتلاميذه، وهو ما لم تفهمه زوجته وعائلته، واعتبرت الأمر جبنا منهم، فهو غير موجود للدفاع عن نفسه، حتى أن أحد تلاميذه أكد أنه يجر طلبته لاعتناق أفكاره بطرق غير مفهومة ....

عبدالحق مومن

رابط حلقة وثائقي حول حياة ادوارد سعيد بالجزيرة الوثائقية على اليوتوب

https://youtu.be/DK_qyMYn5vI?si=1GND9uZrW22HFSZo

ما هو رد فعلك؟

0
like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow