لماذا يحاكم الإنسان نفسه بمنطق الإرادة الحرة في حين تسيره الجينات ؟

لماذا يحاكم الإنسان نفسه بمنطق الإرادة الحرة في حين تسيره الجينات ؟

#وهم_الإرادة_الحرة..

يقول عالم الأعصاب و الكاتب " سام هاريس" ، في مقدمة كتابه الصغير _حرية الإرادة أو الإرادة الحرة_ Free Will..

"الإرادة الحرة هي وهم, نحن ببساطة لا نصنع إرادتنا. الأفكار و النوايا تنشأ من أسباب خلفية لا نعيها و لا نملك سيطرة واعية عليها, نحن لا نملك الحرية كما نعتقد. فى واقع الأمر الإرادة الحرة هى أكثر من وهم (أو أقل)، من حيث كونها غير متماسكة كمفهوم. لأنه إما أن هناك مسببات مسبقة لإرادتنا و نحن غير مسؤولين عنها أو هى نتيجة الصدفة و نحن أيضا غير مسؤولين عنها.

فإذا كان ما يحدد خيار شخص ما بقتل الرئيس (مثلا) هو نمط معين من النشاط العصبي، والذي بالتالي ناتج عن أسباب مسبقة – ربما مصادفة مؤسفة من الجينات السيئة ، طفولة غير سعيدة، افتقاد إلى النوم أو التعرض لأشعة كونية- فمالذي يعنيه القول بأن إرادته حرة ؟! لم يصف أحد طريقة يمكن أن تنتج العمليات العقلية و السلوكية بشكل يشهد على وجود تلك الحرية .. إن معظم الأوهام تنشأ من أشياء أكثر تماسكا من ذلك."

■  العلم يفند الحرية..
الإنسان = جينات وراثية × في  ظروف بيئية إجتماعية..

● فالإنسان يبدأ حياته كطفل رضيع ليس له ذكريات ولا شخصية ولا معرفة ولا قناعات .. ويعطيه والديه إسمه ودينه وجنسيته وطبقته الإجتماعية لكي يشكلوا بعد ذلك كل ما سيحدث في حياته ! كما يشكل وعيه وحياته أيضا كل موقف و كل تجربة يمر بها وتؤثر فيه .. رغم أن لا احد يختار تجارب الحياة. و كما يتأثر الإنسان بالتربية و الأسرة و المدرسة و الشارع و التلفاز و كل تجربة حياتية و خبرة شخصية يعيشها و تشكل شخصيته, إلا أن هذا التأثير محدود بالإمكانيات و الطبائع الكامنة في شفرته الجينية أو الكود الوراثي الكامن في حمضه النووي DNA

●و الجينات هي الطبائع و الصفات أو البرمجة بمعنى أصح ، والتي تفرض نفسها على الإنسان إبتداءا من حجمه و لون عينيه ، وصحته أومرضه و مستوى ذكائه/غبائه … و ليس إنتهاءا بجبنه/شجاعته و طيبته/شره. فالإنسان ليس إلا جينات و ظروف, جينات تتشكل بعشوائية كنتاج للممارسة الجنسية بين الأب و الأم, و تلقيح حيوان منوي عشوائي لبويضة عشوائية في الرحم لكي يتكون الجنين من نصف صفات الأب عشوائيا و نصف صفات الأم عشوائيا .. بالإضافة لظروف بيئية تتشكل بعشوائية من خلال كل ما يشاهده المرء بعينيه و يسمعه بأذنيه و يتعرف عليه بحواسه أو أي تجارب حسية او عقلية يتعرض لها المرء لكي تصنع إنسان بكل ما فيه من إيجابيات و سلبيات و شخصية و ميول و أفكار و دوافع و مشاعر.

•أين الحرية إذن طالما أن كل سلوك أو فعل أو قرار نتخذه في حياتنا … هو قرار نابع من جيناتنا التي تفاعلت مع ظروفنا وانتجوا إختيارنا. وجميعهم يمكن تفسيرهم بواسطة علوم الوراثة وعلوم الإجتماع و علم النفس … وحتى الإقتصاد..!

● الإنسان ليس إلا جينات شكلتها التجارب و الخبرات منذ أن خرجت من رحم أمها, تم توجيهها بواسطة الإنتخاب الطبيعي و الإختيارات المسموح بها فيزيائيا وإجتماعيا. لذلك في أي مرحلة من المراحل العمرية للإنسان إبتداءا من الطفولة و حتى الشيخوخة, حين يختار أي إختيار و حين يسلك أي سلوك و حين يقوم بأي فعل .. فهو لا يفعل بحرية. ربما حين ننظر إلى الإنسان كشخص نتصور أنه فرد صمد ، حر مريد ، وحدة واحدة لا تقبل التجزئة أو القسمة .. و لكن لأن كل شخص مكون من موضوعات فلو فككنا الإنسان إلى موضوعات لنعرف دوافعه الغريزية و محفزاته البيئية وتكوينه النفسي فسنعرف الأسباب التي تدفعه و تحفزه لفعل أي شيء يفعله أو أي إختيار يختاره.

■  لكن إذا كانت الحرية وهم ، فلماذا يظن أغلب الناس اننا أحرار ؟

● التجمعات البشرية إخترعت خرافة الحرية لتبرير المسؤولية الأخلاقية. فكيف يمكن لإله ان يحاسب إنسان لم يكن حرا في إختياراته و سلوكه ؟! بالتأكيد يجب أن يكون هناك حرية لكي يكون هناك مسؤولية و محاسبة. و بدون حتى الخرافات الدينية, يصعب على الكثيرين فهم المنطق الذي يمكن أن يلزم الناس بتحمل مسؤولية إختياراتهم و سلوكهم و هم مدفوعين و خاضعين لأسباب قهرية لا فكاك منها.

● فالقاتل إذا لم يكن حرا في قراره و فعله, فلا معنى لمحاكمته و حسابه, و المحكمة التي تقتنع بان القاتل مجنون أو انه تورط في القتل في غير وعيه أو رغم إرادته فإنها لا تحكم عليه بالسجن بل بإيداعه في مستشفى للأمراض العقلية.

● لذلك إذا كان كل الناس ليسوا أحرار فهم بالتالي ليسوا مسؤولين عن جرائمهم ولا يمكن محاكمتهم أو محاسبتهم, و ليفعل كل إنسان ما يشاء يقتل و يسرق و يؤذي لا يحاسبه أحد لأنه مسكين غير مسؤول عن تصرفاته !! هكذا يتصور المؤمنين .. و الليبراليين.

●و هذا الإستنكار يبدو وجيها و مبررا لأنه منطلق من ربط حتمي بين المسؤولية الأخلاقية و حرية الإرادة. و إذا كان هذا الربط حتميا و نهائيا و قاطعا بالفعل ، فحينها يكون الكلام عن "خرافة الحرية"من سوء الأدب و الدعوة للإنحلال و الإجرام. لكن من حسن الحظ أن هذه ليست الحقيقة.

■ الحق يحرركم

● دعونا نتفق أولا أن الحقيقة أهم و أعلى من أي شيء و كل شيء .. حتى الله والآلهة و الأديان والمعتقدات و الحرية و الليبرالية. الحقيقة أولا وأخيرا.

● بعد ذلك لو كانت الحقيقة لها تبعات إجتماعية سيئة و مؤذية فيا أهلا بالمصائب و الكوارث .. لكن أبدا لا يمكن أن نقيم نظاما إجتماعيا معتمدا على كذبة او خرافة تحت أي ظرف من الظروف. فإذا كانت الحرية خرافة فلا معنى لتبرير الحرية بمنطق المنفعة الإجتماعية. فعلى من يدافع أن يثبت أنها حقيقة واقعية و ليس أنها ضرورة إجتماعية أو أخلاقية.

● ثانيا : من قال أن المسؤولية الإجتماعية و الأخلاقية عن السلوك و الأفعال و الإختيارات مرتبطة بأي شكل من الأشكال بحرية إرادة الإنسان ؟! حرية الإنسان هي خرافة .. بالعقل بالمنطق بالعلم هي خرافة, لكن المسؤولية الأخلاقية والسلوكية موضوع آخر تماما..

■ لا نحتاج لوهم الحرية..

● يعني حين تحرق النار منزلا هل تكون النار شريرة أحرقت المنزل بإيحاء من الشيطان مثلا ؟! النار تحرق بطبيعتها لأن لها طبيعة نارية حارقة. و الناس يطفئون نيران الحريق … بغض النظر عن كون النار حرة أم مجبرة ! نحن نتعامل مع الواقع كما هو ولا نتعامل مع توهمات أو تخيلات. نحن نطفئ النار بالمياه لأن النار تحرق و المياه تطفئ … وليس لأن النار شريرة والمياه طيبة ! مفهوم الحرية هنا زائد عن الحاجة أصلا !

●لا أحد يعتقد مثلا أن النار ستحاسب على سيئاتها و خطاياها بالتعذيب الأبدي في جهنم مثلا !! لا أحد يطفئ النار بإعتبارها حرة في أن تحرق أو لا تحرق .. و أنها بالتالي مسؤولة عن إختياراتها. لكننا نطفئ النار بإعتبارها تحرق وفقط … لا أكثر و لا أقل.

●و كما أن النار تحرق فالمسدس يطلق النار و السم يقتل و المجرم يؤذي و اللص يسرق و المغتصب يغتصب و الفيروس يُمرض. لا أحد حر ، وكل كائن طبيعي حقيقي أو ظاهرة طبيعية يسلكون سلوكا طبيعيا. جميعنا وجميعهم ، لسنا وليسوا أحرار … و الكل ليسوا مسؤولين عن أفعالهم و مع ذلك نحن نكافح الأذى والمؤذيين و الفيروسات و النار و المجرمين. نمنعهم من أذيتنا وندافع عن انفسنا و نقوم بحجر صحي مثلا … بالعلم و الأدوات و التقنيات الإجتماعية.

■  الطبيعة البشرية ديكتاتورية شمولية لا تسمح بالحرية المزعومة..

● بوهم الحرية سيحكم القاضي على السارق بالسجن لأنه حر ومسؤول عن تصرفاته. بدون وهم الحرية سيحكم القاضي على السارق بالسجن أيضا … لكن كإجراء أمني وقائي إحترازي لا أكثر. ما الذي تغير إذن ؟ توقفنا عن الكذب بالحرية .. هذا هو ما تغير و هذا مهم. طالما ان الحرية غير موجودة إذن لا داعي للكذب لأن الصدق لا يزال فضيلة و الكذب لا يزال رذيلة … وغياب الحرية المزعومة لم يغير أيا من ذلك.

● فسجن السارق أو القاتل يمكن فهمه كحالة عزل لشخص مريض بمرض يمنعه من التمتع ببعض الحقوق المدنية الخاصة بالحركة. تماما كما يتم عزل المصابين بمرض وبائي من خلال الحجر الصحي .. فهل الحجر الصحي يعني أن المصابين بالكورونا مثلا أو بأي عدوى هم ناس سيئي السلوك يستحقوا العقاب و التنكيل ؟ طبعا لا. هو إجراء وقائي وليس عقابي. فكرة الحرية نفسها بإعتبارها تشويه  للواقع تشوه المعنى من الفعل نفسه و تصوره بشكل عقابي مع انه في الحقيقة وقائي لا أكثر.

● سواء الحجر الصحي بالنسبة للمصابين بوباء ، أو الحجر الأمني بالنسبة للمصابين بالسرقة أو العنف او الإنحرافات الأخلاقية المؤذية الأخرى … فهذه كلها إجراءات وقائية أمنية ضرورية يتم إتباعها للحفاظ على أمن و سلامة المجتمع و ليست إجراءات إنتقامية حاقدة لعقاب ناس أشرار بطبيعتهم مثلا ! كلمة شر وشرير و خير تصبح كلمات خرافية أيضا .. حين نفهم ان الحرية خرافة.

● والإنتقام عموما هو موقف همجي لا فائدة منه و لا معنى له غير تطييب خواطر ناس همج بدائيين يعتقدون أن البشر أحرار. و بمنطق الإنتقام الوحشي  هذا فمن يصاب بالأنفلونزا مثلا علينا معاقبة من عطس بجواره لأنه هو من قام بنقل الفيروس الممرض إليه !! إنما أي مجتمع عاقل سيتعامل بالسببية المنطقية العلمية مع الواقع كما هو فعلا … لا الواقع كما يتوهمه او كما تمناه. و سيكافح الجريمة و الفوضى بالعقل و المنطق و ليس بالخرافات الدينية و اللامنطقية واللاعلمية.

■ نحن مجرد روبوتات

● إفتراض أن الإنسان حر في إختياراته يفترض فيه ألوهية ما .. شيء مميز عن بقية الحيوانات الغير أحرار. الحرية تفترض فينا شيء خارق للطبيعة يميزنا عن بقية الكائنات الحية و الموجودات عموما .. لكن هذه العقيدة باطلة بكل تأكيد. لأننا حيوانات عاديين جدا ومحكومين بطبيعتنا البشرية … تماما كما أن السمك محكومين بطبيعتهم السمكية البحرية و الطيور محكومية بطبيعتهم الطائرية وهكذا.

● الإنسان عموما هو كيان فيزيائي كيميائي بيولوجي إجتماعي نفسي ، هو مجرد شيء .. لا أكثر ولا أقل. شيء مكون من أشياء و يمكن دراسته و تحليل سلوكه و تبيان دوافعه … الحتمي منها و الإحتمالي. مثله مثل الإليكترون و الجاذبية و النار و الضوء و الحديد و النمل و الدببة و السمك .. مجرد مادة لها خصائص و سلوك كأي شيء آخر. وضحد الحرية هذا ليس الغرض منه إلغاء المسؤولية الأخلاقية أو المسؤولية الإجتماعية .. بالعكس في الحقيقة. بل الغرض منه هو إلغاء شيء سحري و خارق على الإنسان ، يجعله مميز و مختلف عن غيره من الكائنات و الموجودات .. لكن بالكذب و الزيف و الخرافة.

● الإنسان هو مجرد آلة بيوكيميائية تعمل وفق قواعد معينة, شاء من شاء و أبى من أبى. الفارق فقط بين الكائنات الحية (الآلات البيوكيميائية عموما) و بقية الكائنات الفيزيائية مثل الحديد أو النحاس أو الأوكسجين أو النار أو الكوكب أو المجرة, هو أن الكائنات الحية أكثر تعقيدا قليلا من حيث التكوين و السلوك … و هو ما يجعلنا أكثر ميلا إلى الفوضى عن غيرنا من الأنظمة الفيزيائية.

● فإذا كان علم الفيزياء و الفلك و الرياضيات يمكنهم ان يتنبأوا بالكسوف و الخسوف بمنتهى الدقة, فالبيولوجيا والوراثة والإجتماع و النفس والإقتصاد يمكنهم أن يتنبأوا بالسلوك البشري و التحكم فيه بدقة أقل فقط. ليس لأن الكائنات الحية مميزة عن الكائنات الغير حية او أنها مسحورة بأي شكل من الأشكال عن طريق كائنات روحية غامضة .. بل لأن الآلات البيوكيميائية تنتج فوضى (إنتروبي) أكبر من الآلات الفيزيائية الأبسط منها في التركيب..

ZM..

ما هو رد فعلك؟

2
like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow