هل المنطق والاستدلال العقلي كاف لمعرفة حقيقة معينة ؟

هل المنطق والاستدلال العقلي كاف لمعرفة حقيقة معينة ؟

إذا توصلت إلى استنتاج فلسفي باستخدام المنطق, فهل يمكنك أن تقول بأن استنتاجك صحيح بالضرورة ؟

مشكلة الحجج الفلسفية (في أي موضوع فلسفي), هو أن الأطراف المختلفة فيها تفكر في نفس الموضوع من زوايا مختلفة.

وبما أنها تفكر في الموضوع من زوايا مختلفة, فهي تستخدم مسلمات مختلفة, تركز على زوايا مختلفة ...

لكن المشكلة أن هذه العملية لا تضمن أن تكون الاستنتاجات صحيحة تماما, التفكير المنطقي والعقلاني, والحجج المنطقية, إذا بدأتها من مسلمات تركز على الموضوع من زوايا مختلفة, فلن تضمن لك أن تكون استنتاجاتك صحيحة.

لهذا السبب هناك اختلافات فلسفية بين بشر جميعهم يستخدمون التفكير المنطقي , ولهذا السبب لدينا نقاشات وجدالات فلسفية لا تنتهي.

هذا معناه بأن المنطق لوحده, والعقل لوحده, غير كافيان اطلاقا للوصول إلى أي شيء صحيح...

لكي تصل إلى حقيقة عمل الأشياء حولك, لا تحتاج العقل فقط, بل تحتاج كذلك ما نسميه المنهجية العلمية, بالاضافة الى الاستقراء من العالم الخارجي...

في العلم الحديث, عندما تجلس في مكان ما وتفكر بمنطقية, فما تصل اليه نسميه نموذجا : الفيزيائيون النظريون يتوصلون الى النماذج الرياضية طول الوقت باستخدام المنطق العقلي.

لكن النماذج العقلية والرياضية التي يصلون إليها, رغم أنها في أقصى درجات المنطقية والدقة الرياضية, إلا أن هذا غير كاف تماما للقول بأنها صحيحة.

لماذا؟

لأن الرياضيات والمنطق, والأنظمة المنطقية والفلسفية, غير كافية لتحديد ماهو صحيح وماهو خاطئ, من الناحية الابستيمولوجية, وغير كافية لبناء أي معرفة علمية دقيقة.

لهذا السبب, يقوم الفيزيائيون التجريبيون باستقراء العالم الخارجي, للتأكد مما اذا كانت التنبؤات المنطقية الدقيقة التي تضعها هذه النماذج الرياضية, تنبؤات توافق العالم الخارجي أم لا.

أحيانا نصل الى تنبؤات دقيقة, وأحيانا نصل الى تنبؤات خاطئة, رغم أن النماذج بحد ذاتها منطقية وعقلانية تماما.

الآن, كما ترى معي : المنهجية العلمية قوية بشكل كبير, لهذا السبب, لأنها لا تعتمد على المنطق فقط, ولا ترتكز عليه, بل تتجاوزه الى الاستقراء من العالم الخارجي, عن طريق التأكد من التنبؤات التي يقدمها هذا المنطق.

- الفلسفة : نماذج رياضية أو عقلية, لكن بدون تنبؤات يمكن التأكد منها باستقراء العالم الخارجي.

- العلم : نماذج رياضية وعقلية, يمكن التأكد منها باستقراء العالم الخارجي.

العلم اذن ليس منطقا فقط, وليس استدلالا عقليا فقط, بل هو منطق واستدلال عقلي, بالاضافة الى شيء آخر لانجده في الأنظمة العقلانية والفلسفية : الاستقراء من الطبيعة, واستنطاق الكون نفسه بشكل مباشر.

لأنه في النهاية مهما طال تفكيرك وأنت تستحم, فلايوجد ما يضمن لك أن ما ستصل اليه من استنتاجات صحيح, أو عليه أي دليل ...

ولكي يكون عقلك بصحة جيدة, ينبغي عليك أن تعي هذه النقطة ... وتتحلى بالقليل من الشكوكية, وتقول بأنه من الممكن لشخص آخر, أيضا يفكر وهو يستحم, أن يصل الى استنتاج مناقض تماما لاستنتاجك.
 
وأخيرا, سنثبت هنا بأن التفكير من زاويتين مختلفتين, باستخدام المنطق العقلي, وباستخدام مسلمات تبدو صحيحة تماما لكل طرف, يمكنك الوصول الى استنتاجات متناقضة تماما.

سمير عاش طول حياته في منطقة في استراليا يوجد فيها بجع أسود, بينما كمال عاش طول حياته في أوروبا, في منطقة لا يرى فيها الا البجع الأبيض. وكل منهما اكتسب نوعا مختلفا من المعرفة حول البجع... وكل منهما يقول الحقيقة من زاويته هو ...

سمير وضع هذه الحجة : 

- كل البجع أسود
- س بجعة
- اذن : س أسود

بينما كمال وضع هذه الحجة : 

- كل البجع أبيض
- س بجعة
- اذن : س أبيض.

كل منهما نظر إلى نفس الموضوع من زاوية مختلفة, وكل منهما استخدم بالفعل ما يراه مسلمة صحيحة , فوصلا الى استنتاجات متضاربة تماما ..

وهذه الاستنتاجات لا تخبرك اطلاقا عن حقيقة س ... وهل هو بجعة بيضاء أم سوداء.

والحقيقة (الغائبة عنهما), أن المسلمة الأولى في كلا الحجتين خاطئة , ليس كل البجع أبيض, وليس كل البجع اسود.

لكن كيف تعرف بأن مسلماتك صحيحة بالفعل كما تعتقد أنت؟ لايمكنك معرفة ذلك...

وكما تعتقد أن مجموعة مسلماتك صحيحة, فشخص آخر يعتقد أن مسلماته صحيحة, وعندما يستخدم معها المنطق يصل الى استنتاج مخالف لما استنتجته أنت.

ربما لو التقى سمير وكمال فسيتعاركان حول لون البجع وما اذا كان أبيض أم أسود.

لكني هنا لا اتحدث عن لون البجع (لأن الفصل في شيء كهذا, ممكن عن طريق استقراء العالم الخارجي, عن طريق المنهجية العلمية).

لكن ما أتحدث عنه حقيقة هو تلك المسلمات ذات الطبيعة الفلسفية, تلك المسلمات التي لايمكنك ان تقرر ما إن كانت صحيحة أم لا بناء على استقراء العالم الخارجي, بل بناء على مخيلتك انت.

هنا تصبح لدينا بجعات يقول فيها الطرف الأول شيئا, ويقول فيها الطرف الثاني شيئا مختلفا تماما, بدون أن نكون قادرين على الفصل بينهما باستقراء العالم الخارجي.

مثلا : حجج هيراقليطس و بارمينيديس في طبيعة الحركة, وهل الأشياء في طبيعتها متغيرة أم ثابتة.

- هيراقليطس أثبت منطقيا وعقليا بأن السكون والدوام مستحيل, باستخدام مسلمات عقلية الكثيرون سيوافقون عليها.

- بارمينيديس (ومن بعده تلميذه زينون) اثبت منطقيا وعقليا بأن الحركة والتغير مستحيلان, باستخدام مسلمات عقلية ومفارقات منطقية تنشأ من التغير والحركة.

هل هؤلاء أغبياء ليصلوا الى استنتاجات متضاربة؟

لا ... كل ما في الأمر أن هذه طبيعة التفكير الفلسفي والمنطقي, تضع مسلمات معينة, تنظر الى الموضوع من زاوية معينة, ترى بأن المسلمات صحيحة, وتتبع الموضوع إلى آخره بشكل عقلي ومنطقي... ثم تتوصل إلى استنتاج عقلي ومنطقي في نظرك.

ثم بعدها تتفاجئ بأن شخصا آخر, أيضا حريص على استعمال العقل والمنطق, توصل الى استنتاج مناقض تماما لاستنتاجك.

هذا يحدث في الفلسفة كثيرا.

طبعا, يحدث في العلم النظري, لكن في العلم نسميه نماذج رياضية وفرضيات ينبغي التأكد من صحتها.

بمعنى : أنك قد تجد عالمين قتلا الموضوع تحليلا رياضيا ومنطقيا وعقليا... لكن نماذجهما تؤدي الى استنتاجات متضاربة تماما.

وفي النهاية, قد تجد نموذج أحدهما فاشلا في وضع تنبؤات صحيحة, بينما الآخر يكون ناجحا في ذلك.

لكن لماذا يحدث هذا الأمر؟ هل هذا يعني أن المنطق ناقص؟

لا , ليس المنطق ناقصا, المنطق قوي بما فيه الكفاية لاستخدامه في التعامل مع العالم من حولنا...

المشكلة أنه أقوى من العقل البشري, المنطق دقيق جدا جدا جدا, ومن السهل على تفكيرك المتسرع, وتقديرك الخاطئ لما يحدث حولك في العالم, ووضعك لمسلمات ليست صحيحة 100 بالمئة, لكنها قد تكون خاطئة لـ 0.00001 بالمئة, بالاضافة لانحيازك التأكيدي الذي يلزمك لتقرير الاستنتاج أولا, قبل وضع المسلمات المناسبة له..

كل هذا قد يجعل استنتاجك خاطئا بالفعل, رغم أنك تعتقد بيقين كبير أن كل المسلمات صحيحة.

هذا يحدث للعباقرة, رياضيون وفيزيائيون وفلاسفة ومناطقة عظماء, لا يُستبعد أن يحدث معك كذلك, نحن مجرد بشر.

وكل ما يمكن للعقل البشري فعله, هو الاقتراب من الحقيقة, لكنك هنا تحتاج البوصلة, والبوصلة هي العالم الخارجي وَ التجربة وَ الاستقراء.

إذا لم تكن لديك هذه البوصلة, فقد تبتعد وتسرح كثيرا في استنتاجاتك العقلية...

نفترض أنك في وسط البحر ولا تعرف أي اتجاه تقصد... وكل ما تعرفه هو الاتجاه الذي جئت منه بعدما قطعت مسافة بالكيلومترات.

- الاعتماد على المنطق والاستدلال العقلي فقط, بدون استقراء من العالم الخارجي, أشبه باعتمادك فقط على قدراتك العقلية. المشكلة هنا, أن مجرد خطأ واحد في الزاوية التي تحركت فيها قد يجعلك تلتف حول نفسك بدون أن تشعر. ثم تضع مسلمات تعتقد أنها صحيحة (رغم أنها ليست كذلك), ثم تستنتج اتجاها خاطئا, لأنك اعتمدت على عقلك فقط.

هذا ما يحدث للفيزيائيين النظريين مثلا عندما يملؤون مئات الأوراق بالمعادلات لبناء نموذج رياضي جديد, ثم يكتشفون بأنه نموذج فاشل حتى في أبسط التنبؤات, رغم أنه منطقي وعقلي تماما...

- الاعتماد على الاستقراء من العالم الخارجي, واستخدام المنهجية العلمية, سيجعلك تنظر الى النجوم في السماء ... لايمكن للعالم الخارجي أن يخطئ, صحيح أنه سيعطيك تقريبا للاتجاهات, لكنك قد تخلصت هنا من امكانية كونك تفكر في الاتجاه الخاطئ.

وهذا ما يحدث للفيزيائيين عندما يأخذون النموذج ويتأكدون من كون تنبؤاته توافق العالم الخارجي, اذا حدث ذلك فهذا يدعم النموذج أكثر وأكثر.

المنطق والعقل مجرد أدوات, تساعدك في عملية استقراء العالم حولك, وليست أشياء يمكنك استخدامها : إذا كان 1 فإن 2, ومنه 3 , اذن 4 ... في موضوع فلسفي لايمكنك أن تخرج الى العالم وتستنطقه لتتأكد منه.

لهذا السبب تبدو لي المواضيع الفلسفية ممتعة جدا, ومثيرة للفضول والرغبة في المعرفة.. 

لكني رغم ذلك, أعتقد بأنه لاينبغي التعامل معها بجدية كبيرة ... 

#منطق
#logic

ما هو رد فعلك؟

0
like
0
dislike
0
love
0
funny
0
angry
0
sad
0
wow