الحلوي يرصد تخوفاته من الذكاء الإصطناعي و قدرته على الهبوط بدلالة الإنسان
أقضي وقتا ذا اعتبار وأنا أستفهِم نموذجَ الذكاء الإصطناعي "دجي پي تي" عَلِّيَ أفهم بشكل دقيق ما يتشابه فيه مع الإنسان وما يختلف عنه فيه. منتهى غايتي أن أرصد على نحو أدق كيف انفصل الهوموساپيان بغصن له عجيبٍ فريدٍ في جِذْع الهومينيد ...
وكلما زاد إدراكي للذكاء الإصطناعي عمقا وفهمي له رسوخاً، كلما تبيّن لي أنَّ الجامع بين الإنسان ونموذج الذكاء الإطناعي أن لكليهما #تأويلا لذاته معلوما قد يكون منسجما وقد يكون متنافرا، قد يكون قويما وقد يكون ذا عِوَج، قد يكون عميقا وقد يكون سطحيا.
فنظام دجي پي تي، مثلا، #يؤوّل ذاته على أنه "كائن" لا يشبه الكائنات الفيزيائية والبيولوجية إذ وجوده رهين بأدائه لا بتعيُّنه في الزمان والمكان، وعلى أنه "نموذج لاستعمال اللغة عن طريق التوالي الإحصائي"، وعلى أنه "يتفاعل معتمدا على ما أُتيح له من معلومات"، وعلى أنه "يتوخّى الموضوعية في الإجابة على أسئلة المتفاعلين." ... فلاحظ أن جُملة #تأويل نموذج الذكاء الإصطناعي لنفسه مبني على "فهمه" لأدائه، أي للسلوك المعلوماتي الذي بُرمِج لإنجازه من أجل تحقيق غايات الإخبار والإعلام والتفاعل.
أما عندما نعود إلى زمان ما قبل أرسطو، لنستكشف أقدم محاولات الإنسان ل #تأويل نفسه، سنجد بأن قدماء المصريين كانوا مهووسين بفهم الإنسان على ضوء كونه "فانيا" (مصيره الموت) يسعى لتحقيق خلوده .. وسنجد بأن ملحمة ڭلڭاميش في حضارة ما بين الرافدين تدور حول حقيقة "الفناء" وأمل "البقاء"، وسنجد بأن مناط الفلسفات الهندية هو الإفلات من "السّاماسارا" (أي دائرة الولادة ثم الموت ثم إعادة الولادة) .. فلم يبدأ الإنسان بإضفاء طابع التجريد على هذا #التأويل لذاته إلا مع الفلسفات اليونانية ما قبل السقراطية التي #أوّلت الإنسان بدلالة "طبيعته"، ف #أَوَّل سقراط "الإنسان" على أنه كائن يفكر مؤسسا لتعريف أرسطو للإنسان بصفته لائنا عاقلا.
وهكذا فقد #أوّل الهوموساپيان نفسه بصفته كائنا سائرا نحو الموت يرجو الخلود، فذهُل، عند اليونان، عن هذا #التأويل، ليحوّل سؤاله الأصلي إلى تساؤل حول طبيعة هذا الذي "يفنى" ويرجو "خلوداً". هذا انتقال من السعي إلى فهم "مصير الفاني"، إلى السعي إلى فهم "طبيعة الفاني" ...
أفلا ترى إذن أن الذكاء الإصطناعي "هبط" درجة أخرى في سُلّم التساؤل عن الذات من التساؤل عن "الطبيعة" إلى التساؤل عن "الأداء"؟ فلم يعد يهمُّه أن يعيَ بنفسه (وهو امتداد للإنسان) بصفته "سائرا نحو الموت"، كما فعل الأقدمون، ولا أن يعرّف نفسه بدلالة "طبيعة" تميزه عن غيره من الكائنات، كما فعل اليونان، بل اتجه نحو تعريف نفسه بدلالة ما يتفاعل به مع المستعملين مما ينجزه من أفعال معلوماتية ..
تخوُّفي ليس من تغوُّل الآلة الذكية وخروجها عن السيطرة ... بل من "هبوط" الهوموساپيان نفسه من كائن يتساءل حول المصير إلى كائن يُنجز ولا يؤوِّل ذاته إلا بدلالة ما ينجزه. نسمي باللغة اليونانية الإنسان الذي يُختَزُل جوهره في ما ينجزه من أعمال ب "الأكسيوپويا" Αξιοποιία. تخوفي أن يسير بنا الذكاء الإصطناعي نحو تأويل أكسيوپويي للإنسان ...
هذا الإختزال المحتمل هو الذي جعل ستيفن هوكينڭز يقول ذات يوم بشيء من التحسر : "سيكون النجاح في الذكاء الإصطناعي هو أعظم حدث في التاريخ الإنساني. ولكن للأسف قد يكون أيضا آخر حدث (في التاريخ الإنساني) إذا لم نعمل على تجنب المخاطر" ... والخطر في نظري ليس هو الذكاء الصناعي .. بل تأويل الإنسان لنفسه بصفته #أكسيوپويا تماما كما يفعل الذكاء الإصطناعي ... تخوُّفي ليس من الذكاء الإصطناعي بل من الإنسان نفسه!