سخر أعداء الإسلام من تحريم النسب بالرضاعة على اعتبار أن الرضيع تتحدد صفاته بالحمض النووي للنطفة الأمشاج، وبالتالي لا يمكن للبن المُرضعة أن يغير صفات الرضيع، وإلا لكانت البقرة أُماً للرضيع إذا رضع لبنها.
واعتبر أعداء الإسلام أن هذا التشريع لا يستند لأساس علمي، وأن أحكام الرضاعة في الإسلام تم أخذها من عادات العرب التي سبقت الإسلام، فقال أحدهم على موقع الحوار المتمدن: (تشريع الرضاعة مأخوذ من عادات العرب قبل الإسلام، فقد ذكر د. جواد علي في موسوعة تاريخ العرب قبل الإسلام، أن العرب كانت تقول نصاً: "حُرمة الرضاعة كحُرمة النسب" بينما الرسول محمد قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
فهل فعلاً الرضاعة لا تؤثر في صفات الرضيع الوراثية؟، وهل أخذ الإسلام تحريم النسب بالرضاعة من العرب قبل الإسلام؟، وهل رضاعة لبن الحيوانات له قيمة في النسب؟.
■ هل أخذ الإسلام تحريم النسب بالرضاعة من العرب
بالعودة إلى موسوعة د. جواد للبحث عن ذلك النص المزعوم (حرمة الرضاعة كحرمة النسب) نجد أنه لا وجود له، وقد ذكر د. جواد تعظيم العرب للرضاعة قبل الإسلام في فصل كامل اسمه (لبن الأم) في الجزء الثامن ص٢٣٤ - ٢٣٥، ولم يذكر هذه العبارة ولا اي شيء يفيد أن العرب كانت تحرم زواج الأقارب في الرضاعة، ويمكنكم البحث في كامل الكتاب ولو وجد أحدكم غير ما أقول فله مني ألف دولار، وإليكم رابط فصل لبن الأم لمن أراد التأكد.
■ هل قرابة الرضاعة مادية وروحية كقرابة الدم؟
من المعلوم أن قرابة الدم ليست روحية فقط، فمحبة شخص لآخر ليست هي سبب القرابة، ولكن هناك سبب مادي مُعتبر في الإسلام وهو الصفات الوراثية التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء عبر الأمشاج الذكرية والأنثوية التي تتحد معاً في بطون الأمهات مُنتجةً النطفة الأمشاج (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج)، حيث تم مشج صفات النطفتين معاً، فتم تقدير الصفات الجديدة للجنين (من نطفة خلقه فقدره)، فكانت القرابة مادية بتأثير نطفة الأب التي قد تنزع شبه الولد للأعمام، وبتاثير نطفة الأم التي قد تنزع شبه الولد للاخوال.
ولنا أن نسأل، هل قرابة الرضاعة مادية مثل قرابة الدم حتى تستحق تحريم النسب؟
والجواب من وجهة نظري القاصرة هو نعم، فالقرآن قسّم المُحرمات من النساء في آية واحدة إلى ثلاثة أقسام على حسب التأثير الوراثي المادي، فقال الله:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا).
فهذا الترتيب في ذكر المُحرمات من النساء يجعل تحريم النسب بالرضاعة وسط بين تحريم النسب بقرابة الدم وتحريمه بالمصاهرة، ولا شك في أن هذا الترتيب مُعجز من حيث بيان شدة التحريم من الأعلى الى الأقل بحسب قوة الإرتباط الروحي والمادي الوراثي، وهي كالتالي:
١. بدأ الله بقرابة الدم لأنها الأكثر تأثيراً على الصفات الوراثية (أمهاتكم، بناتكم، أخواتكم، عماتكم، خالاتكم، بنات الأخ والأخت).
٢. ثم أتبعها الله بقرابة الرضاعة (امهاتكم واخزاتكم من الرضاعة)، ولعل في ذلك إشارة لأن لها تأثير مُشابه لقرابة الدم ماديا ومعنويا.
٣. ثم ختم الله بقرابة المُصاهرة لأن تأثيرها معنوي ويكاد يكون تأثيرها الوراثي مُنعدم، وتشمل (امهات نسائكم، الربائب من المدخول بها، حلائل الأبناء من صلبكم، الجمع بين الأختين).
وقد جاء التأكيد على أن لقرابة الرضاعة سبب مادي في السُنة النبوية التي لا تُحرِم النسب بالرضعة والرضعتان (لا تحرم المصة ولا المصتان)، وإنما بخمس رضعات مُشبعات على الأقل بحسب الراجح من أقوال أهل العلم، وفي ذلك دلالة على أن التأثير مُرتبط بالكم، فكلما زادت الرضعات زاد الأثر المادي للبن المُرضعة على الرضيع، وهناك أحاديث أكدت على أن قرابة الرضاعة لا تثبت إلا باثرها المادي في الرضيع من حيث إنبات اللحم والعظم، فعن بن مسعود أنه قال (لا رضاعَ إلَّا ما شدَّ العَظمَ وأنبتَ اللَّحمَ)، رواه أبو داود وصححه الألباني.
■ هل لبن الرضاعة له تأثير وراثي؟
الجواب قولاً واحداً هو نعم
بصفة عامة أثبت العلم أن ما نتناوله من غذاء له القدرة على التأثير على الصفات الوراثية بآليات عديدة فظهر حديثاً علم جديد اسمه علم الجينات الغذائي (nutrigenomics)، وهو علم يدرس تأثير أنواع الطعام المختلفة على النشاط الجيني للإنسان من حيث الصحة والمرض، فالغذاء يمكنه أن يحمي الجينات كما يمكنه أن يصيبها بالتلف فتنشأ عن ذلك أمراض عديدة (١، ٢).
وبصفة خاصة وجد العلماء أن لبن الرضاعة له تأثير وراثي على الرضيع وذلك من خلال عدة آليات أقواها هو التأثير اللاجيني لأنه يمكن أن يمتد للأجيال التالية، وإن كانت الأبحاث تشير أيضا لتأثير بعض المكونات الوراثية التي تخرج مع اللبن مثل الخلايا الجذعية stem cells، والحمض الريبوزي الميكروي miRNA، والتي قد تؤثر على الصفات الوراثية للرضيع، والله أعلم ماذا سيكتشف العلم في المستقبل.
وقبل أن أبدأ في سرد هذه الآليات والأبحاث التي تدعمها أود أن أشير إلى أن هناك بعض أبحاث الإعجاز العلمي التي خرجت من فترة ليست بالقريبة حاولت إثبات النسب بالرضاعة من خلال إكتشاف وجود أجسام مناعية antibodies وبعض الخلايا المناعية في لبن الأم، وبإنتقالها للرضيع تؤثر على مناعة الرضيع وتكون سبب في القرابة.
ولكن من وجهة نظري القاصرة أرى أن هذه الآلية لا تصلح للإستدلال بها لكونها مؤقتة حيث تختفي هذه الأجسام المناعية من جسم الرضيع بعد أن يبدأ جسمه في تكوين الأجسام المناعية الخاصة به، كما أن هذه الأجسام المناعية لا تدخل في تركيب أعضاء الجنين ولن تؤثر على صفاته الوراثية ولن ينتقل أثرها للأجيال التالية، ولذا فهي لا تصلح لتفسير القرابة بالرضاعة والله تعالى أعلى واعلم.
■ الآليات التي تؤثر بها الرضاعة وراثياً على الرضيع
١. التأثير الوراثي اللاجيني للبن المرضعة
أثبتت العديد من الدراسات أن لبن الأم يمكنه التأثير على جينات الرضيع من خلال الوراثة اللاجينية Epigenetic inheritance وهي تختلف عن الوراثة المندلية في أنها لا تُغير تركيب الجينات ولكن فقط تتحكم في نشاط الجينات بالتحكم في بعض المواد الكيميائية مثل مجموعة الميثيل التي ترتبط بالجينات والتي تحدد اذا ما كان الجين نشط أو لا وهو ما يعرف في علم الوراثة بالدمغ الوراثي genomic imprinting، حيث يكون الجين المدموغ بمجموعة كيميائية مثل الميثيل غير نشط بينما الجين الغير مدموغ يكون نشط، وهذا الدمغ الوراثي يتم في أثناء تكون الأمشاج ولعدد كبير من الجينات يُقدر بالآلاف، وعلميا هذا الدمغ الوراثي قابل للتغيير أثناء تكوين الجنين في الرحم وأيضاً بعد الولادة تحت تأثير عوامل كثيرة منها الغذاء ولبن الرضاعة والذي يُمكنه تنشيط جين غير نشط أو تثبيط جين نشط، وكل هذه التغييرات اللاجينية تؤدي إلى إظهار صفات شكلية جديدة في الرضيع إو اخفاء صفات شكلية كان من الممكن ان تتكون، وهذا يعني أن لبن المُرضعة يؤثر على تكوين الرضيع جينياً وشكلياً، وذلك يعني إنشاء صلة قرابة مادية وراثية بين المُرضعة والرضيع (٣، ٤).
كما أن الدراسات العلمية أثبتت أن الدور اللاجيني للبن الأم يمكنه التحكم في العديد من الأمراض التي ستصيب الرضيع مستقبلاً، وبالتالي لو رضع أكثر من رضيع من نفس المرضعة فهناك احتمال أن يصاب بعض منهم بنفس المرض، فاذا حدث زواج بينهما فوارد جداً أن يقوم الزوجين بتوريث المرض لأولادهما (٥ - ٧).
كما أن التاثير اللاجيني للبن الأم يؤثر على الصفات الشكلية للجنين فإنه أيضاً يمكنه التأثير على الناحية النفسية والسلوكية للجنين، فإذا كانت المرضعة عصبية مثلاً فإن العصبية ستنتقل للرضيع لاجينياً (٨ - ١٠).
٢. التأثير الوراثي للخلايا الجذعية في لبن المرضعة
حتى وقت قريب كنت أعترض على الإستدلال بوجود الخلايا الجذعية في لبن الأم لأن الأبحاث القديمة وإن كانت بينت انها تنتقل من لبن الأم الى دم الرضيع ولكنها لم تُثبت قدرتها على الدخول لأنسجة الجنين والمشاركة في تركيبها، ولكن في السنوات القليلة الأخيرة ظهرت عدة أبحاث تُثبت ان الخلايا الجذعية للبن الأم يمكنها الوصول لأعضاء الجنين مثل الكبد والعظم والامعاء والجهاز المناعي بل وحتى المخ، حيث تتمايز هذه الخلايا الجذعية في هذه الأعضاء الى خلايا مماثلة لخلايا العضو فتشارك في تركيب ونمو أعضاء الجنين، فكأن هذه الخلايا الحذعية تُتمم خلق الجنين الذي بدأ في الرحم مع الفارق فمعدل الخلق والتكوين وتمايز الخلايا في الجنين يكون أسرع وأكثر نشاطاً عن الرضيع، وبذلك سنجد المادة الوراثية للمُرضعة حاضرة وبقوة في أنسجة الرضيع بما يجعل القرابة بالرضاعة أمر لا يمكن إنكاره (١١، ١٢).
ومن الواضح أن تأثير الخلايا الجذعية لن يقتصر على المشاركة في بناء أعضاء الجنين وفقط بل سيمتد للتأثير على الحمض النووي للرضيع بطريقة لاجينية، فقد بدأت الأبحاث العلمية تشير الى أن الخلايا الجذعية المنقولة من شخص الى آخر يمكنها تغيير الصفات اللاجينية للحمض النووي في الشخص المستقبل بطريقة تشبه تلك الموجودة في الشخص المتبرع او المعطي للخلايا الجذعية وأظن أن أن الخلايا الجذعية للبن الأم ستكون قادرة على ذلك والله أعلم (١٣).
٣. التأثير الوراثي للحمض الريبوزي الميكروي miRNA في لبن المُرضعة
قديماً كنت أعترض أيضا على الإستدلال بوجود الأحماض الريبوزية الميكروية في لبن الأم لأن الأبحاث القديمة وإن كانت بينت أنها تنتقل من لبن الأم الى دم الرضيع ولكنها لم تُثبت قدرتها على الدخول لأنسجة الجنين والمشاركة في تركيبها، ولكن في السنوات القليلة الأخيرة ظهرت عدة أبحاث تُثبت ان الأحماض الريبوزية الميكروية للبن الأم يمكن ترجمتها داخل الرضيع الى العديد من البروتينات التي تشارك في تركيب الجنين، بل ويمكنها أيضاً التحكم في الوراثة اللاجينية للرضيع (١٤، ١٥).
■ هل التأثير الوراثي للبن الرضاعة ينتقل عبر الأجيال؟
بصفة عامة ظهرت العديد من الإثباتات في دراسات علمية مُختلفة تشير إلى أن التأثير الوراثي للغذاء يمتد للخلايا الجنسية ويتم الاحتفاظ به ثم ينتقل عبر الأجيال من خلال الوراثة اللاجينيية، وأحيانا يكون التأثير الوراثي ضار كما في حالة داء السكري والسمنة وأمراض القلب (١٦ - ١٩).
وبصفة خاصة ظهرت العديد من الإثباتات في دراسات علمية مُختلفة تشير إلى أن التأثير الوراثي للبن الرضاعة يمتد للخلايا الجنسية للرضيع ويمكن الاحتفاظ به ثم ينتقل عبر الأجيال من خلال الوراثة اللاجينيية، وأحيانا يكون التأثير الوراثي أيضا ضار (٢٠- ٢٢).
■ هل الرضاعة من ألبان الحيوانات تؤثر مادياً في صفات الرضيع الوراثية؟
الجواب هو نعم، فألبان الحيوانات مثل أي طعام يمكنه التاثير على صفات البشر الوراثية وخصوصاً بطريقة لاجينية، وقد أشرت لذلك في بداية البحث، ولنأخذ ألبان البقر كمثال، حيث تناولتها عدة دراسات علمية اثبتت ان رضاعة لبن البقر قد يؤدي إلى تغير لاجيني دائم ويسبب عدة امراض منها السُكري، وتنكيس الاعصاب، والسرطان، وحساسية الصدر (٢٣ ٢٤). ولعل هذا الضرر من ألبان الحيوانات يبين لنا عظمة التشريع الإسلامي حين أباح الرضاعة من أم بديلة حفظاً لحياة الجنين وصيانةً لصحته، وفي نفس الوقت حرص الإسلام على عدم إنتقال التأثير الوراثي للبن المُرضعة للاجيال التالية، فحرم النسب بالرضاع، فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة.
ولكن لماذا لم يحرم الإسلام النسب مع الحيوانات عند الرضاع من ألبان الحيوانات؟
ببساطة لأن الزواج من الحيوانات مُحرم في الإسلام، وبالتالي لا يهتم الإسلام برضاعة ألبان الحيوانات، فالرضيع لن يتزوج البقرة التي رضعت معه، أو التي أرضعته، ولا شأن للإسلام بأفعال غير المسلمين الخطأ.
■ الخلاصة
مما سبق يتبين لنا بجلاء شديد أن لبن المُرضعة له تأثير وراثي قوي على الرضيع والأجيال التالية وبالتالي يكون له دور أساسي في القرابة المادية التي تنشأ بين الرضيع والمُرضعة والتي لا تجعلنا نستغرب أو نستنكر تحريم النسب بالرضاعة في الإسلام والذي من أهدافه حماية الأجيال التالية من العديد من الأمراض الوراثية التي قد تنشأ عن زواج الأقارب بالدم أو الأقارب في الرضاعة، وهذا يجعلنا ننظر لهذا التشريع الرباني بإجلال وتعظيم فهو صالح لكل زمان ومكان لأن المُشًرٍع هو الله العليم بما يصلح أحوال خلقه، فوجب التصديق بكل أوامره حتى لو لم نعلم الحكمة منها.
اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك وما كان من ظن أو خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء.
د. محمود عبدالله نجا
ا. م. بكلية طب القنفذة - جامعة أم القرى
0
0
0
0
0
0
0